لعلّ بداية السنة فرصة لكي أقتني دفتراً هاتفيًّا جديداً، أنقل عليه ما نجا من الأسماء.. و ما صمد من الأرقام. يتناقص الأصدقاء عاماً بعد عام، بعضهم سقط من القطار، و آخرون سقطوا من القلب.ـ
لا وقت لي لأنتشل أحداً. لذا أحتفظ بدفتر هاتفي تعيد الأيام تشكيل أرقامه. لا أكترث لفوضاه، و لأرقام كتبتُ بعضها على عجل دون أسماء، كأنّني أعرف أصحابها. و ها أنا لا أدري أيّ اسم أضع عليها.ـ
قلّما أهاتف أحداً. عدا صديقات يتناوبن على شغل هاتفي ليل نهار.ـ
قبل خمس عشرة سنة قرّرت المغادرة إلى بيروت. عندما صباح عيد لم أجد أحداً أهاتفه. برغم إقامتي سبع عشرة سنة في باريس. فتحت يومها دفتر هاتفي و لم أجد عليه سوى أرقام أطباء الأطفال و هواتف الإدارات و الشغالات اللائي عملن عندي، فرحتُ أهاتفهن، و ما زلت في الأعياد أفضل مهاتفة بسطاء يصنع صوتي عيدهم، على أناس يعتقدون لأهميّتهم أن مهاتفتهم هي عيديّتي.ـ
أتصفّح مفكرة كأنّها مقبرة لأناس كان بعضهم يشغل صفحتها الأولى، و كانت يدي تطلبهم أكثر من مرّة في اليوم في هواتف عابرة للقارات و لم تبق اليوم سوى أطلالهم شواهد قبر مكتوبة كيفما اتفق حسب التسلسل الأبجدي للخذلان.ـ
حدث أن نظفت قبورمن خانوني. و نقلت أسماءهم على مفكرة أخرى جديدة كما لو كانوا أحياء. ثم صرت أشطب أسماءهم على استحياء. اليوم تعلّمت أن أمزّق الصفحة. كلّما تقدّم بك العمر صَغُرَ دفتر هاتفك. أصبحت أكثر انفراداً و حريّة. فأنت لا تريد هاتفاً يدقّ بل هاتفاً يخفق.. و عليك ألّا تشغل الخط بل أن تشغل وقتك في انتظار الحب. حتى إن اقتضى الأمر بإعادة نسخ دفترك الهاتفي. فحين سيدقّ هاتف الحبّ لن يترك لك وقتاً لشيء!ـ
ذلك أنّ مولاك الحبّ حين يحضر سيختصر كلّ الأرقام في رقم واحد، يزدحم به هاتفك و وقتك. و ستضحك من استبداد الذاكرة التي كانت تحفظ رقماً هاتفيًّا من أحد عشر رقم و لا تحفظ رقماً، من ستة أرقام هو رقمك!
لا تمضوا نصف أعماركم في فضّ الاشتباك مع جبروت الذاكرة. باشروا إذن فوراً باقتناء دفتر جديد. اختصروا أرقامه ما استطعتم. و تذكّروا أنّ أرقاماً لا يحفظها قلبكم لا تستحقّ أن توجد على الصفحة الأولى لدفتر هاتفكم.ـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق